فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

{وَمَا هذه الحياة الدنيآ إلاَّ لَهْو وَلَعب} أي شيء يُلهَى به ويُلعَب.
أي ليس ما أعطاه الله الأغنياء من الدنيا إلا وهو يضمحل ويزول؛ كاللعب الذي لا حقيقة له ولا ثبات، قال بعضهم: الدنيا إن بقيت لك لم تبق لها.
وأنشد:
تروحُ لنا الدنيا بغير الذي غَدَتْ ** وتَحدثُ من بعد الأمور أمورُ

وتجري الليالي باجتماعٍ وفُرقةٍ ** وتطلُعُ فيها أنجم وتَغورُ

فمن ظنّ أنّ الدهرَ باقٍ سرورُهُ ** فذاكَ محال لا يَدُومُ سرورُ

عَفَا اللَّهُ عَمَّن صَيَّر الهمَّ واحدًا ** وأيقن أن الدائرات تَدورُ

قلت: وهذا كله في أمور الدنيا من المال والجاه والملبس الزائد على الضروري الذي به قوام العيش، والقوّة على الطاعات.
وأما ما كان منها لله فهو من الآخرة، وهو الذي يبقى كما قال: {ويبقى وَجْهُ رَبّكَ ذُو الجلال والإكرام} [الرحمن: 27] أي ما ابتغى به ثوابه ورضاه.
{وَإنَّ الدار الآخرة لَهيَ الحيوان} أي دار الحياة الباقية التي لا تزول ولا موت فيها.
وزعم أبو عبيدة: أن الحيوان والحياة والحيّ بكسر الحاء واحد.
كما قال:
وقد ترى إذ الحياةُ حيُّ.
وغيره يقول: إن الحيّ جمع على فعول مثل عصيّ.
والحيوان يقع على كل شيء حيّ.
وحيوان عين في الجنة.
وقيل: أصل حَيَوان حَيَيَان فأبدلت إحداهما واوًا؛ لاجتماع المثلين.
{لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أنها كذلك.
قوله تعالى: {فَإذَا رَكبُوا في الفلك} يعني السفن وخافوا الغرق {دَعَوُا الله مُخْلصينَ لَهُ الدين} أي صادقين في نياتهم، وتركوا عبادة الأصنام ودعاءها.
{فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إلَى البر إذَا هُمْ يُشْركُونَ} أي يدعون معه غيره، وما لم ينزل به سلطانًا.
وقيل: إشراكهم أن يقول قائلهم لولا الله والرئيس أو الملاّح لغرقنا، فيجعلون ما فعل الله لهم من النجاة قسمة بين الله وبين خلقه.
قوله تعالى: {ليَكْفُرُوا بمَآ آتَيْنَاهُمْ وَليَتَمَتَّعُوا} قيل: هما لام كي أي لكي يكفروا ولكي يتمتعوا.
وقيل: {إذَا هُمْ يُشْركُونَ} ليكون ثمرة شركهم أن يجحدوا نعم الله ويتمتعوا بالدنيا.
وقيل: هما لام أمر معناه التهديد والوعيد.
أي اكفروا بما أعطيناكم من النعمة والنجاة من البحر وتمتعوا.
ودليل هذا قراءة أُبيّ {وَتَمَتَّعُوا}.
ابن الأنباري: ويقوي هذا قراءة الأعمش ونافع وحمزة: {وَلْيَتَمَتَّعُوا} بجزم اللام.
النحاس: {وَليَتَمَتَّعُوا} لام كي، ويجوز أن تكون لام أمر؛ لأن أصل لام الأمر الكسر، إلا أنه أمر فيه معنى التهديد.
ومن قرأ: {وَلْيَتَمَتَّعُوا} بإسكان اللام لم يجعلها لام كي؛ لأن لام كي لا يجوز إسكانها.
وهي قراءة ابن كثير والمسيّبي وقالون عن نافع، وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم.
الباقون بكسر اللام.
وقرأ أبو العالية: {ليَكْفُرُوا بمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} تهديد ووعيد.
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمنًا} قال عبد الرحمن بن زيد: هي مكة وهم قريش أَمَّنهم الله تعالى فيها.
{وَيُتَخَطَّفُ الناس منْ حَوْلهمْ} قال الضحاك: يقتل بعضهم بعضًا ويَسبي بعضهم بعضًا والخطف الأخذ بسرعة وقد مضى في القصص وغيرها.
فأذكرهم الله عز وجل هذه النعمة ليذعنوا له بالطاعة.
أي جعلتُ لهم حرمًا آمنًا أمنوا فيه من السَّبي والغارة والقتل، وخلّصتهم في البر كما خلصتهم في البحر، فصاروا يشركون في البر ولا يشركون في البحر.
فهذا تعجب من تناقض أحوالهم.
{أفبالباطل يُؤْمنُونَ} قال قتادة: أفبالشرك.
وقال يحيى بن سلاّم: أفبإبليس.
{وَبنعْمَة الله يَكْفُرُونَ} قال ابن عباس: أفبعافية الله.
وقال ابن شجرة: أفبعطاء الله وإحسانه.
وقال ابن سلاّم: أفبما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى.
وحكى النقاش: أفبإطعامهم من جوع، وأمنهم من خوف يكفرون.
وهذا تعجب وإنكار خرج مخرج الاستفهام.
قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ ممَّنْ افترى عَلَى الله كَذبًا} أي لا أحد أظلم ممن جعل مع الله شريكًا وولدًا، وإذا فعل فاحشة قال: {وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا والله أَمَرَنَا بهَا} [الأعراف: 28].
{أَوْ كَذَّبَ بالحق لَمَّا جَاءَهُ} قال يحيى بن سلاّم: بالقرآن.
وقال السّديّ: بالتوحيد.
وقال ابن شجرة: بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وكل قول يتناول القولين.
{أَلَيْسَ في جَهَنَّمَ مَثْوًى لّلْكَافرينَ} أي مستقر.
وهو استفهام تقرير.
قوله تعالى: {والذين جَاهَدُوا فينَا} أي جاهدوا الكفار فينا.
أي في طلب مرضاتنا.
وقال السّديّ وغيره: إن هذه الآية نزلت قبل فرض القتال.
قال ابن عطية: فهي قبل الجهاد العرفي، وإنما هو جهاد عام في دين الله وطلب مرضاته.
قال الحسن بن أبي الحسن: الآية في العبّاد.
وقال ابن عباس وإبراهيم بن أدهم: هي في الذين يعملون بما يعلمون.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من عمل بما علم علّمه الله ما لم يعلم» ونزع بعض العلماء إلى قوله: {واتقوا الله وَيُعَلّمُكُمُ الله} [البقرة: 282].
وقال عمر بن عبد العزيز: إنما قصّر بنا عن علم ما جهلنا تقصيرنا في العمل بما علمنا، ولو عملنا ببعض ما علمنا لأورثنا علمًا لا تقوم به أبداننا، قال الله تعالى: {واتقوا الله وَيُعَلّمُكُمُ الله} [البقرة: 282].
وقال أبو سليمان الدارانيّ: ليس الجهاد في الآية قتال الكفار فقط بل هو نصر الدين، والرد على المبطلين؛ وقمع الظالمين؛ وعُظْمه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله وهو الجهاد الأكبر.
وقال سفيان بن عُيَيْنَة لابن المبارك: إذا رأيت الناس قد اختلفوا فعليك بالمجاهدين وأهل الثغور فإن الله تعالى يقول: {لَنَهْديَنَّهُمْ}.
وقال الضحاك: معنى الآية؛ والذين جاهدوا في الهجرة لنهدينهم سبل الثبات على الإيمان.
ثم قال: مثل السُّنة في الدنيا كمثل الجنة في العقبى، من دخل الجنة في العقبى سلم، كذلك من لزم السُّنة في الدنيا سلم.
وقال عبد الله بن عباس: والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا.
وهذا يتناول بعموم الطاعة جميع الأقوال.
ونحوه قول عبد الله بن الزبير قال: تقول الحكمة من طلبني فلم يجدني فليطلبني في موضعين: أن يعمل بأحسن ما يعلمه، ويجتنب أسوأ ما يعلمه.
وقال الحسن بن الفضل: فيه تقديم وتأخير أي الذين هديناهم هم الذين جاهدوا فينا.
{لَنَهْديَنَّهُمْ سُبُلَنَا} أي طريق الجنة؛ قاله السّدي.
النقاش: يوفقهم لدين الحق.
وقال يوسف بن أسباط: المعنى لنخلصنّ نياتهم وصدقاتهم وصلواتهم وصيامهم.
{وَإنَّ الله لَمَعَ المحسنين} لام تأكيد ودخلت في مَعَ على أحد وجهين: أن يكون اسمًا ولام التوكيد إنما تدخل على الأسماء، أو حرفًا فتدخل عليها؛ لأن فيها معنى الاستقرار؛ كما تقول إن زيدًا لفي الدار.
و{مع} إذا سكنت فهي حرف لا غير.
وإذا فتحت جاز أن تكون اسمًا، وأن تكون حرفًا.
والأكثر أن تكون حرفًا جاء لمعنى.
وتقدّم معنى الإحسان والمحسنين في البقرة وغيرها.
وهو سبحانه معهم بالنصرة والمعونة، والحفظ والهداية، ومع الجميع بالإحاطة والقدرة.
فبين المعيّتين بون. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وما هذه الحياة الدنيا}.
الإشارة بهذه ازدراء للدنيا وتصغير لأمرها، وكيف لا؟ وهي لا تزن عند الله جناح بعوضة، أي ما هي في سرعة زوالها عن أهلها وموتهم عنها، إلا كما يلعب الصبيان ساعة ثم يتفرقون.
والحيوان، والحياة بمعنى واحد، وهو عند الخليل وسيبويه مصدر حيي، والمعنى: لهي دار الحياة، أي المستمرة التي لا تنقطع.
قال مجاهد: لا موت فيها.
وقيل: الحيوان: الحي، وكأنه أطلق على الحي اسم المصدر.
وجعلت الدار الآخرة حيًا على المبالغة بالوصف بالحياة، وظهور الواو في الحيوان وفي حيوة، علم لرجل استدل به من ذهب إلى أن الواو في مثل هذا التركيب تبدل ياء لكسر ما قبلها، نحو: شقي من الشقوة.
ومن ذهب إلى أن لام الكلمة لامها ياء، زعم أن ظهور الواو في حيوان وحيوة بدل من ياء شذوذًا، وجواب لو محذوف، أي لو كانوا يعلمون، لم يؤثروا دار الفناء عليها.
وجاء بنا مصدر حي على فعلان، لأنه يدل على الحركة والاضطراب، كالغليان، والنزوان، واللهيان، والجولان، والطوفان.
والحي: كثير الاضطراب والحركة، فهذا البناء فيه لكثرة الحركة.
ولما ذكر تعالى أنهم مقرون بالله إذا سئلوا: من خلق العالم؟ {ومن نزل من السماء ماء}؟ ذكر أيضًا حالة أخرى يرجعون فيها إلى الله، ويقرون بأنه هو الفاعل لما يريد، وذلك حين ركوب البحر واضطراب أمواجه واختلاف رياحه.
وقال الزمخشري: فإن قلت: بم اتصل قوله: {فإذا ركبوا في الفلك}؟ قلت: بمحذوف دل عليه ما وصفهم به، وشرح من أمرهم معناه على ما وصفوا به من الشرك والعناد.
{فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين} كائنين في صورة من يخلص الدين لله من المؤمنين، حيث لا يذكرون إلا الله، ولا يدعون مع الله آخر.
وفي المخلصين ضرب من التهكم، و{إذا هم يشركون} جواب لما، أي فاجأ السحية إشراكهم بالله، أي لم يتأخر عنها ولا وقتًا.
والظاهر في {ليكفروا} أنها لام كي، وعطف عليه {وليتمتعوا} في قراءة من كسر اللام وهم: العربيان ونافع وعاصم، والمعنى: عادوا إلى شركهم.
{ليكفروا} أي الحامل لهم على الشرك هو كفرهم بما أعطاهم الله تعالى، وتلذذهم بما متعوا به من عرض الدنيا، بخلاف المؤمنين، فإنهم إذا نجوا من مثل تلك الشدة، كان ذلك جالب شكر الله تعالى، وطاعة له مزدادة.
وقيل: اللام في: {ليكفروا} {وليتمتعوا} لام الأمر، ويؤيده قراءة من سكن لام وليتمتعوا وهم: ابن كثير، والأعمش، وحمزة، والكسائي؛ وهذا الأمر على سبيل التهديد، كقوله: {اعملوا ما شئتم} وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز أن يأمر الله تعالى بالكفر، وبأن يعمل العصاة ما شاؤا، وهو ناه عن ذلك ومتوعد عليه؟ قلت: هو مجاز عن الخذلان والتحلية، وإن ذلك الأمر مسخط إلى غاية. انتهى.
والتحلية والخذلان من ألفاظ المعتزلة.
وقرأ ابن مسعود: فتمتعوا فسوف تعلمون، بالتاء فيهما: أي قيل لهم تمتعوا فسوف تعلمون، وكذا في مصحف أبيّ.
وقرأ أبو العالية: فيتمتعوا، بالياء، مبنيًا للمفعول.
ومن قرأ: وليتمتعوا، بسكون اللام، وكان عنده اللام في: ليكفروا، لام كي، فالواو عاطفة كلامًا على كلام، لا عاطفة فعلا على فعل.
وحكى ابن عطية، عن ابن مسعود: لسوف تعلمون، باللام، ثم ذكرهم تعالى بنعمه، حيث أسكنهم بلدة أمنوا فيها، لا يغزوهم أحد ولا يستلب منهم، مع كونهم قليلي العدد، قارين في مكان لا زرع فيه، وهذه من أعظم النعمة التي كفروها، وهي نعمة لا يقدر عليها إلا الله تعالى.
وقرأ الجمهور: {يؤمنون} و{يكفرون} بالياء فيهما.
وقرأ السلمي، والحسن: بتاء الخطاب فيهما.
وافتراؤهم الكذب: زعمهم أن لله شريكًا، وتكذيبهم بالحق: كفرهم بالرسول والقرآن.
وفي قوله: {لما جاءه} إشعار بأنهم لم يتوقفوا في تكذيبه وقت مجيء الحق لهم، بخلاف العاقل، فإنه إذا بلغه خبر، نظر فيه وفكر حتى يبين له أصدق هو أم كذب.
وأليس تقرير لمقامهم في جهنم كقوله:
ألستم خير من ركب المطايا.
و{للكافرين} من وضع الظاهر موضع المضمر: أي مثواهم.
{والذين جاهدوا فينا} أطلق المجاهدة، ولم يقيدها بمتعلق، ليتناول المجاهدة في النفس الأمّارة بالسوء والشيطان وأعداء الدين، وما ورد من أقوال العلماء، فالمقصود بها المثال.
قال ابن عباس: جاهدوا أهواءهم في طاعة الله وشكر آلائه والصبر على بلائه.
{لنهدينهم سبلنا} لنزيدنهم هداية إلى سبيل الخير، كقوله: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم} وقال السدي: جاهدوا فينا بالثبات على الإيمان، لنهدينهم سبلنا إلى الجنة.
وقال أبو سليمان الداراني: جاهدوا فيما علموا، لنهدينهم إلى ما لم يعلموا.
وقيل: جاهدوا في الغزو، لنهدينهم سبل الشهادة والمغفرة.
وقال ابن عباس: المحسنين الموحدين.
وقال غيره: المجاهدون.
وقال عبد الله بن المبارك: من اعتاصت عليه مسألة، فليسأل أهل الثغور عنها، كقوله تعالى: {لنهدينهم سبلنا}.
{والذين} مبتدأ خبره القسم المحذوف، وجوابه: وهو لنهدينهم وبهذا، ونظيره ردّ على أبي العباس ثعلب في منعه أن تقع جملة القسم والمقسم عليه خبرًا للمبتدأ، ونظيره: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوّأنهم}. اهـ.